سورة هود - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)}
قوله تعالى: {قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي على يقين، قاله أبو عمران الجوني.
وقيل: على معجزة، وقد تقدم في الأنعام هذا المعنى. {وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} أي نبوة ورسالة، عن ابن عباس، وهي رحمة على الخلق.
وقيل: الهداية إلى الله بالبراهين.
وقيل: بالإيمان والإسلام. {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي عميت عليكم الرسالة والهداية فلم تفهموها. يقال: عميت عن كذا، وعمي علي كذا أي لم أفهمه. والمعنى: فعميت الرحمة، فقيل: هو مقلوب، لأن الرحمة لا تعمى إنما يعمى عنها، فهو كقولك: أدخلت في القلنسوة رأسي، ودخل الخف في رجلي. وقرأها الأعمش وحمزة والكسائي {فَعُمِّيَتْ} بضم العين وتشديد الميم على ما لم يسم فاعله، أي فعماها الله عليكم، وكذا في قراءة أبي {فعماها} ذكرها الماوردي. {أَنُلْزِمُكُمُوها} قيل: شهادة أن لا إله إلا الله.
وقيل: الهاء ترجع إلى الرحمة.
وقيل: إلى البينة، أي أنلزمكم قبولها، وأوجبها عليكم؟! وهو استفهام بمعنى الإنكار، أي لا يمكنني أن اضطركم إلى المعرفة بها، وإنما قصد نوح عليه السلام بهذا القول أن يرد عليهم. وحكى الكسائي والفراء {أنلزمكموها} بإسكان الميم الأولى تخفيفا، وقد أجاز مثل هذا سيبويه، وأنشد:
فاليوم أشرب غير مستحقب *** إثما من الله ولا واغل
وقال النحاس: ويجوز على قول يونس في غير القرآن أنلزمكمها يجري المضمر مجرى المظهر، كما تقول: أنلزمكم ذلك. {وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ} أي لا يصح قبولكم لها مع الكراهة عليها. قال قتادة: والله لو استطاع نبي الله نوح عليه السلام لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك. {وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على التبليغ، والدعاء إلى الله، والإيمان به أجرا أي {مالًا} فيثقل عليكم. {إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} أي ثوابي في تبليغ الرسالة. {وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} سألوه أن يطرد الأراذل الذين آمنوا به، كما سألت قريش النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يطرد الموالي والفقراء، حسب ما تقدم في الأنعام بيانه، فأجابهم بقوله: {وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} يحتمل أن يكون قال هذا على وجه الإعظام لهم بلقاء الله عز وجل، ويحتمل أن يكون قاله على وجه الاختصام، أي لو فعلت ذلك لخاصموني عند الله، فيجازيهم على إيمانهم، ويجازي من طردهم. {وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} في استرذالكم لهم، وسؤالكم طردهم. قوله تعالى: {وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} قال الفراء: أي يمنعني من عذابه. {إِنْ طَرَدْتُهُمْ} أي لأجل إيمانهم. {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أدغمت التاء في الذال. ويجوز حذفها فتقول: تذكرون. قوله تعالى: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} أخبر بتذلله وتواضعه لله عز وجل، وأنه لا يدعي ما ليس له من خزائن الله، وهي إنعامه على من يشاء من عباده، وأنه لا يعلم الغيب، لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل. {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} أي لا أقول إن منزلتي عند الناس منزلة الملائكة. وقد قالت العلماء: الفائدة في الكلام الدلالة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء، لدوامهم على الطاعة، واتصال عباداتهم إلى يوم القيامة، صلوات الله عليهم أجمعين. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة. {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} أي تستثقل وتحتقر أعينكم، والأصل تزدريهم حذفت الهاء والميم لطول الاسم. والدال مبدلة من تاء، لأن الأصل في تزدري تزتري، ولكن التاء تبدل بعد الزاي دالا، لأن الزاي مجهورة والتاء مهموسة، فأبدل من التاء حرف مجهور من مخرجها. ويقال: أزريت عليه إذا عبته. وزريت عليه إذا حقرته. وأنشد الفراء:
يباعده الصديق وتزدريه *** حليلته وينهره الصغير
{لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً} أي ليس لاحتقاركم لهم تبطل أجورهم، أو ينقص ثوابهم. {اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ} فيجازيهم عليه ويؤاخذهم به. {إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي إن قلت هذا الذي تقدم ذكره. و{إِذاً} ملغاة، لأنها متوسطة.


{قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}
قوله تعالى: {قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا} أي خاصمتنا فأكثرت خصومتنا وبالغت فيها. والجدل في كلام العرب المبالغة في الخصومة، مشتق من الجدل وهو شدة الفتل، ويقال للصقر أيضا أجدل لشدته في الطير، وقد مضى هذا المعنى في الأنعام بأشبع من هذا. وقرأ ابن عباس {فأكثرت جدلنا} ذكره النحاس. والجدل في الدين محمود، ولهذا جادل نوح والأنبياء قومهم حتى يظهر الحق، فمن قبله أنجح وأفلح، ومن رده خاب وخسر. وأما الجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق فمذموم، وصاحبه في الدارين ملوم. {فَأْتِنا بِما تَعِدُنا} أي من العذاب. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في قولك. قوله تعالى: {قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ}
أي إن أراد إهلاككم عذبكم. {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي بفائتين.
وقيل: بغالبين بكثرتكم، لأنهم أعجبوا بذلك، كانوا ملئوا الأرض سهلا وجبلا على ما يأتي. قوله تعالى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} أي إبلاغي واجتهادي في إيمانكم. {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} أي لأنكم لا تقبلون نصحا، وقد تقدم في براءة معنى النصح لغة. {إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} أي يضلكم. وهذا مما يدل على بطلان مذهب المعتزلة والقدرية ومن وافقهما، إذ زعموا أن الله تعالى لا يريد أن يعصي العاصي، ولا يكفر الكافر، ولا يغوي الغاوي، وأن يفعل ذلك، والله لا يريد ذلك، فرد الله عليهم بقوله: {إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}. وقد مضى هذا المعنى في الفاتحة وغيرها. وقد أكذبوا شيخهم اللعين إبليس على ما بيناه في الأعراف في إغواء الله تعالى إياه حيث قال: {فَبِما أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف: 16] ولا محيص لهم عن قول نوح عليه السلام: «إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ» فأضاف إغواءهم إلى الله سبحانه وتعالى، إذ هو الهادي والمضل، سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علوا كبيرا.
وقيل: {أَنْ يُغْوِيَكُمْ} يهلككم، لأن الإضلال يفضي إلى الهلاك. الطبري: {يُغْوِيَكُمْ} يهلككم بعذابه، حكي عن طئ أصبح فلان غاويا أي مريضا، وأغويته أهلكته، ومنه {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]. {هُوَ رَبُّكُمْ} فإليه الإغواء، وإليه الهداية. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تهديد ووعيد.
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} يعنون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. افترى أفتعل، أي اختلق القرآن من قبل نفسه، وما أخبر به عن نوح وقومه، قال مقاتل.
وقال ابن عباس: هو من محاورة نوح لقومه وهو أظهر، لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه، فالخطاب منهم ولهم. {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} أي اختلقته وافتعلته، يعني الوحي والرسالة. {فَعَلَيَّ إِجْرامِي} أي عقاب إجرامي، وإن كنت محقا فيما أقوله فعليكم عقاب تكذيبي. والأجرام مصدر أجرم، وهو اقتراف السيئة. وقيل المعنى: أي جزاء جرمي وكسبي. وجرم وأجرم بمعنى، عن النحاس وغيره. قال:
طريد عشيرة ورهين جرم *** بما جرمت يدي وجنى لساني
ومن قرأ {أجرامي} بفتح الهمزة ذهب إلى أنه جمع جرم، وذكره النحاس أيضا. {وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} أي من الكفر والتكذيب.


{وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)}
قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} {أَنَّهُ} في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسم فاعله. ويجوز أن يكون في موضع نصب، ويكون التقدير: ب {أَنَّهُ}. و{آمَنَ} في موضع نصب ب {يُؤْمِنَ} ومعنى الكلام الإياس من إيمانهم، واستدامة كفرهم، تحقيقا لنزول الوعيد بهم. قال الضحاك: فدعا عليهم لما أخبر بهذا فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح: 26] الآيتين.
وقيل: إن رجلا من قوم نوح حمل ابنه على كتفه، فلما رأى الصبي نوحا قال لأبيه: أعطني حجرا، فأعطاه حجرا، ورمى به نوحا عليه السلام فأدماه، فأوحى الله تعالى إليه {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ} أي فلا تغتم بهلاكهم حتى تكون بائسا، أي حزينا. والبؤس الحزن، ومنه قول الشاعر:
وكم من خليل أو حميم رزئته *** فلم أبتئس والرزء فيه جليل
يقال: ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه. والابتئاس حزن في استكانة. قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا} أي اعمل السفينة لتركبها أنت ومن آمن معك. {بِأَعْيُنِنا} أي بمرأى منا وحيث نراك.
وقال الربيع بن أنس: بحفظنا إياك حفظ من يراك.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بحراستنا، والمعنى واحد، فعبر عن الرؤية بالأعين، لأن الرؤية تكون بها. ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير، كما قال تعالى: {فَنِعْمَ الْقادِرُونَ} [المرسلات: 23] {فَنِعْمَ الْماهِدُونَ} {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]. وقد يرجع معنى الأعين في هذه الآية وغيرها إلى معنى عين، كما قال: {وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي} وذلك كله عبارة عن الإدراك والإحاطة، وهو سبحانه منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف، لا رب غيره.
وقيل: المعنى {بِأَعْيُنِنا} أي بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على حفظك ومعونتك، فيكون الجمع على هذا التكثير على بابه.
وقيل: {بِأَعْيُنِنا} أي بعلمنا، قاله مقاتل: وقال الضحاك وسفيان: {بِأَعْيُنِنا} بأمرنا.
وقيل: بوحينا.
وقيل: بمعونتنا لك على صنعها. {وَوَحْيِنا} أي على ما أوحينا إليك، من صنعتها. {وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أي لا تطلب إمهالهم فإني مغرقهم.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10